فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

تفسير سورة الضحى:
وهي مكية.
روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بَزةَ المقرئ قال: قرأت على عكرمة بن سليمان، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عبَّاد، فلما بلغت {والضحى} قالا لي: كَبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك. وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك. وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك، وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك.
فهذه سُنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، من ولد القاسم بن أبي بزة، وكان إماما في القراءات، فأما في الحديث فقد ضَعَّفَه أبو حاتم الرازي وقال: لا أحدث عنه، وكذلك أبو جعفر العقيلي قال: هو منكر الحديث. لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال له: أحسنت وأصبت السنة. وهذا يقتضي صحة هذا الحديث.
ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته، فقال بعضهم: يكبر من آخر {وَالليل إِذَا يغشى} وقال آخرون: من آخر {والضحى} وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول: الله أكبر ويقتصر، ومنهم من يقول الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر.
وذكر الفراء في مناسبة التكبير من أول سورة {الضحى}: أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة ثم جاءه الملك فأوحى إليه: {والضحى وَالليل إِذَا سجى} السورة بتمامها، كبر فرحًا وسرورًا. ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف، فالله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{والضحى (1) وَالليل إِذَا سجى (2)}
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن الأسود بن قيس قال: سمعت جُنْدُبا يقول: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتت امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك. فأنزل الله عز وجل: {والضحى وَالليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى}.
رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، من طرق، عن الأسود بن قيس، عن جُنْدُب- هو ابن عبد الله البَجلي ثم العَلقي به.
وفي رواية سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس: سمع جندبًا قال: أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: وُدِّع محمد. فأنزل الله: {والضحى وَالليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله الأودي قالا حدثنا أبو أسامة، حدثني سفيان، حدثني الأسود بن قيس، أنه سمع جندبًا يقول: رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال: «هل أنت إلا أصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت؟»....
قال: فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم، فقالت له امرأة: ما أرى شيطانك إلا قد تركتك فنزلت: {والضحى وَالليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} والسياق لأبي سعيد.
قيل: إن هذه المرأة هي: أم جميل امرأة أبي لهب، وذكر أن إصبعه، عليه السلام، دميت. وقوله- هذا الكلام الذي اتفق أنه موزون- ثابت في الصحيحين ولكن الغريب هاهنا جعله سببًا لتركه القيام، ونزول هذه السورة.
فأما ما رواه ابن جرير: حدثنا ابن أبي الشوارب، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا سليمان الشيباني، عن عبد الله ابن شداد: أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا قد قلاك. فأنزل الله: {والضحى وَالليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى}.
وقال أيضا: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه قال: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعًا شديدًا، فقالت خديجة: إني أرى ربك قد قلاك مما نَرى من جزعك.
قال: فنزلت: {والضحى وَالليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} إلى آخرها.
فإنه حديث مرسل من هذين الوجهين ولعل ذكر خديجة ليس محفوظًا، أو قالته على وجه التأسف والتحزن، والله أعلم.
وقد ذكر بعض السلف- منهم ابن إسحاق- أن هذه السورة هي التي أوحاها جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تبدى له في صورته التي خلقه الله عليها، ودنا إليه وتدلى منهبطًا عليه وهو بالأبطح، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10].
قال: قال له هذه السورة: {والضحى وَالليل إِذَا سجى}
قال العوفي، عن ابن عباس: لما نزلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، أبطأ عنه جبريل أياما، فتغير بذلك، فقال المشركون: ودعه ربه وقلاه. فأنزل الله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى}
وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء، {وَالليل إِذَا سجى} أي: سكن فأظلم وادلَهَم.
قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وغيرهم. وذلك دليل ظاهر على قدرة خالق هذا وهذا. كما قال: {وَالليل إِذَا يغشى وَالنَّهَارِ إِذَا تجلى} [الليل: 1، 2]، وقال: {فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ الليل سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96].
وقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} أي: ما تركك، {وَمَا قلى} أي: وما أبغضك، {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى} أي: والدار الآخرة خير لك من هذه الدار. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأعظمهم لها إطراحًا، كما هو معلوم بالضرورة من سيرته. ولما خُيِّرَ، عليه السلام، في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة، وبين الصيرورة إلى الله عز وجل، اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم النَّخعِي، عن علقمة، عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: «اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت: يا رسول الله، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي وللدنيا؟! ما أنا والدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظَلّ تحت شجرة، ثم راح وتركتها».
ورواه الترمذي وابن ماجة، من حديث المسعودي به وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقوله: {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} أي: في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته، وفيما أعدَّه له من الكرامة، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، وطينه مسك أذفر كما سيأتي.
وقال الإمام أبو عمر الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي، عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: عرض على رسول الله ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزا كنزا، فسر بذلك، فأنزل الله: {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم.
رواه ابن جرير من طريقه، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس: ومثلُ هذا ما يقال إلا عن توقيف.
وقال السدي، عن ابن عباس: من رضاء محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقال الحسن: يعني بذلك الشفاعة. وهكذا قال أبو جعفر الباقر.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا معاويةُ بن هشام، عن علي بن صالح، عن يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا أهلُ بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}». اهـ.

.قال الألوسي:

{والضحى} تقدم الكلام فيه والمراد به هنا وقت ارتفاع الشمس الذي يلي وقت بروزها للناظرين دون ضوئها وارتفاعها لأنه أنسب بما بعد وتخصيصه بالأقسام به لأنه شباب النهار وقوله فيه قوة غير قريبة من ضدها.
ولذا عد شرفاً يومياً للشمس وسعداً ولأنه على ما قالوا الساعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام وألقى فيه السحرة سجدًّا لقوله تعالى: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59] ففيه مناسبة للمقسم عليه وهو أنه تعالى لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه الطافة تعالى وتكليمه سبحانه وقيل المراد به النهار كما في قوله تعالى: {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} [الأعراف: 98] واعترض بالفرق فإنه فوقع هناك في مقابلة البيات وهو مطلق الليل وهنا في مقابلة الليل مقيداً معنى باشتداد ظلمته فالمناسب أن يراد به وقت ارتفاعه وقوة إضاءته وأجيب بمنع دلالة القيد على الاشتداد وستسمع إن شاء الله تعالى ما في ذلك وأياً ما كان فالظاهر أن المراد الجنس أي وجنس الضحى.
{واليل} أي وجنس الليل {إِذَا سجى} أي سكن أهله على أنه من السجو وهو السكون مطلقاً كما قال غير واحد والإسناد مجازي أو هو على تقدير المضاف كما قيل ونحوه ما روى عن قتادة أي سكن أهله على أنه من السجو وهو السكون مطلقاً كما قال غير واحد والإسناد مجازي أو هو على تقدير المضاف كما قيل ونحوه ما روى عن قتادة أي سكن الناس والأصوات فيه وهذا يكون في الغالب فيما بين طرفيه أو بعد مضى برهة من أوله أو ركد ظلامه من سجا البحر سكنت أمواجه قال الأعشى:
وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم ** وبحرك ساج لا يوارى الدعا مصا

فالسجو قيل على هذا في الأصل سكون الأمواج ثم عم والمراد بسكون ظلامه عدم تغيره بالاشتداد والتنزل أي فيما يحس ويظهر وذلك إذا كمل حساً بوصول الشمس إلى سمت القدم وقبيله وبعيده وصرح باعتبار الاشتداد ابن الأعرابي حيث قال سجا الليل اشتد ظلامه.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه قال أي إذا أقبل فغطى كل شيء وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس تفسير {سجا} بأقبل بدون ذكر التغطية وأخرجاهما وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً أنه قال: {سجا} إذا ذهب وكلا التفسيرين خلاف المشهور وشاعر ليل ساكن أوساج لما لا ريح فيه ووصفه بذلك أعني السكون قيل على الحقيقة كما إذا قيل ليل لا ريح فيه ولا يقال إن الساكن هو الريح بالحقيقة لأن السكون عليها حقيقة محال لأنه هواء متحرك ثم إنهم يقولونه لما لا ريح فيه لا لما سكن ريحه والتحقيق أن يقال إن السكون على تفسيريه أعني عدم الحركة عما من شأنه الحركة أو كونين في حيز وأحد لا يصح على الليل لأنه زمان خاص لكن لما كان سكون الهواء بمنزلة عدم له في العرف العامي لعدم الإحساس أو لتضمنه عدم الريح لا الهواء قيل ليل ساج وساكن وصف الليل على الحقيقة أي لا إسناد فيه إلى غير ملائم على أنه يحتمل أن يجعل السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية وجوز حمل ما في الآية على هذا الشائع ولعل التقييد بذلك لأن الليل الذي لا ريح فيه أبعد عن الغوائل وقد ذكر بعض الفقهاء أن الريح الشديدة ليلاً عذر من أعذار الجماعة ونقل عن قتادة ومقاتل أن المراد بـ: {الضحى} هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبـ: {الليل} ليلة المعراج ومن الناس من فسر {الضحى} بوجهه صلى الله عليه وسلم و{الليل} بشعره عليه الصلاة والسلام كما ذكر الإمام وقال لا استبعاد فيه وهو كما ترى ومثله ما قيل {الضحى} ذكور أهل بيته عليه الصلاة والسلام أناثهم وقال الإمام يحتمل أن يقال: {الضحى} رسالته صلى الله عليه وسلم و{الليل} زمان احتباس الوحي فيه لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمان الاحتباس حصل الاستيحاش أو {الضحى} نور علمه تعالى الذي يعرف المستور من الغيوب و{الليل} عفوه تعالى الذي به يستر جميع العيوب أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريباً و{الليل} إشارة إلى أنه سيعود غريباً أو الضحى كمال العقل و{الليل} حال الموت أو الضحى علانيته عليه الصلاة والسلام التي لا يرى الخلق عليها عيباً و{الليل} سره صلى الله عليه وسلم لا يعلم عالم الغيب عليها عيباً انتهى ولا يخفى أنه ليس من التفسير في شيء وباب التأويل والإشارة يدخل فيه أكثر من ذلك وتقديم {الضحى} على {الليل} بناء على ما قلنا أولاً لرعاية شرفه لما فيه من ظهور زيادة النور وللنور شرف ذاتي على الظلمة لكونه وجودياً أو لكثرة منافعه أو لمناسبته لعالم الملائكة فإنها نورانية وتقديم {الليل} في السورة السابقة لما فيه من الظلمة التي هي لعدميتها أصل للنور الحادث بإزالتها لأسباب حادثة وقيل تقديمه هناك لأن السورة في أبي بكر وهو قد سبقه كفر وتقديم الضحى هنا لأن السورة في رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو صلى الله عليه وسلم لم يسبقه ذلك وتخصيصه تعالى الوقتين بالأقسام قيل ليشير سبحانه بحالهما إلى حال ما وقع له عليه الصلاة والسلام ويؤيد عز وجل نفي ما توهم فيه فكأنه تعالى يقول الزمان ساعة فساعة ساعة ليل وساعة نهار ثم تارة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار وأخرى بالعكس فلا الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى بل كل لحكمة وكذا أمر الوحي مرة إنزال وأخرى حبس فلا كان الانزال عن هوى ولا الحبس عن قلى بل كل لحكمة وقيل ليسلى عز وجل بحالهما حبيبه عليه الصلاة والسلام كأنه سبحانه يقول انظر إلى هذين المتجاورين لا يسلم أحدهما من الآخر بل الليل يغلب تارة والنهار أخرى فكيف تطمع أن تسلم من الخلق والقولان مبنيان على أن المراد بـ: {الضحى} النهار كله وبـ: {الليل إذا سجى} جميع الليل وتخصيص الضحى على ما سمعت ولا لما سمعت وتخصيص الليل بناء على أن المراد وقت اشتداد الظلمة قيل لأنه وقت خلو المحب بالمحبوب والأمن من كل واش ورقيب.
وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه في ذلك أنه تعالى أقسم له صلى الله عليه وسلم بوقتين فيهما صلاته عليه الصلاة والسلام التي جعلت قرة عينه وسبب مزبد قربه وأنسه أما {الضحى} فلما رواه الدارقطني في المجتبى عن ابن عباس مرفوعاً «كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها» وأما الليل فلقوله تعالى: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نافلة لك} [الإسراء: 79] إرغاماً لأعدائه وتكذباً لهم في زعم قلاه وجفائه فكأنه قيل وحق قربك لدينا وزلفاك عندنا إنا اصطفيناك ما هجرناك وقليناك فهو كقوله:
وثناياك انها اغريض

وهو مما تستطيبه أهل الأذواق ويمكن أن يكون الأقسام بـ: {الليل} على ما نقل عن قتادة من باب وثناياك أيضاً وكذا الأقسام بهما على بعض الأوجه المارة كما لا يخفى وعلى كون المراد بـ: {الضحى} الوقت المعروف من النهار وبـ: {الليل} جميعه قيل إن التفرقة للإشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن النبي عليه الصلاة والسلام يوازي جميع الأنبياء عليهم السلام وللإشارة لكون النهار وقت السرور والليل وقت الوحشة والغم إلى أن هموم الدنيا وغمومها أدوم من سرورها وقد روى أن الله تعالى لما خلق العرض أظلت عن يساره غمامه فنادت ماذا أمطر فأمرت أن تمطر الغموم والأحزان فامطرت مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى إتمام ثلثمائة سنة ثم أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء فنادت ماذا أمطر فأمرت أن تمطر السرور اسعة فلذا ترى الغموم والأحزان أدوم من المسار في الدنيا والله تعالى أعلم بصحة الخبر وقيل غير ذلك وقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى (3)}
جواب القسم وودع من التوديع وهو في الأصل من الدعة وهو أن تدعو للمسافر بأن يدفع الله تعالى عنه كآبة السفر وأن يبلغه الدعة وخفض العيش كما أن التسليم دعاء له بالسلامة ثم صار متعارفاً في تشييع المسافر وتركه ثم استعمل في الترك مطلقاً وفسر به هنا أي ما تركك ربك وفي البحر والكشاف التوديع مبالغة في الودع أي الترك لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك قيل وعليه يلزم أن يكون المنفي الترك المبالغ فيه دون أصل الترك مع أن الظاهر نفى ذلك فلابد من أن يقال إنه إنما نفى ذلك لأنه الواقع في كلام المشركين الذي نزلت له الآية أو أن المبالغة تعود على النفي فيكون المراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة وقد ذكروا نظير هذين الوجهين في قوله تعالى: {وماربكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فتدبر وقيل: إن المعنى ما قطعك قطع المودع على أن التوديع مستعار استعارة تبعية للترك وفهي من اللطف والتعظيم ما لا يخفى فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته كما قال المتنبي:
حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا ** فلم أدر أي الظاعنين أشيع

وحقيقة التوديع المتعارف غير متصورة هاهنا وتعقب بأنه على هذا لا يكون رداً لما قاله المشركون لأنهم لم يقولوا ودعه ربه على هذا المعنى كيف وهم بمعزل عن اعتقاد كونه عليه الصلاة والسلام بالمحل الذي هو صلى الله عليه وسلم فيه من ربه سبحانه وقيل في الجواب أنه يجوز أن يدل ودعه ربه على ذلك إلا أنهم قاتلهم الله تعالى قالوه على سبيل التهكم والسخرية وحين رد عليهم قصد ما يشعر به اللفظ على التحقيق وقيل إن الترك مطلق في كلامهم والظاهر من حال أنهم لم يريدوا الماهية من حيث هي ولا من حيث تحققها في ضمن ما لا يخل بشريف مقامه عليه الصلاة والسلام بل الماهية من حيث تحققها في ضمن ما يخل بذلك ولما كان المقصود إيناسه صلى الله عليه وسلم وإزالة وحشته عليه الصلاة والسلام جيء بما يتضمن نفي ما زعموه على أبلغ وجه كأنه قيل إن هذا النوع الغير المخل بمقامك من الترك لم يكن فضلاً عما زعموه من الترك المخل بعزيز مقامك وعندي أن الظاهر أن ذلك القول بأي معنى كان صادر على سبيل التهكم إذا كان المراد بالرب هو الله عز وجل وكان القائل من المشركين كما لا يخفى على المتأمل.
وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة {ما ودعك} بالتخفيف وهي على ما قال ابن جني قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وخرجت على أن ودع مخفف ودع ومعناه معناه.
قال في (القاموس) ودعه كوضعه وودع بمعنى وقيل ليس بمخففة بل هو فعل برأسه بمعنى ترك وأنه يعكر على قول النحاة أماتت العرب ماضي يدع ويذر ومصدرهما واسم فاعلهما واسم مفعولهما واستغنوا بما ليترك من ذلك وفي المغرب أن النحاة زعموا أن العرب أماتت ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم أفصحهم وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات» وقرأ {ما ودعك} وقال أبو الأسود:
ليت شعري عن خليلي ما الذي ** غاله في الحب حتى ودعه

ومثله قول آخر:
وثم ودعنا إل عمرو وعامر ** فرائس أطراف المثقفة السمر

وهو دليل أيضاً على استعمال ودع وهو بمعنى ترك المتعلق بمفعولين فلا تغفل وفي الحديث: «اتركوا الترك ما تركوكم ودعوا الحبشة ما ودعوكم» وفي المستوفي أن كل ذلك قد ورد في كلام العرب ولا عبرة بكلام النحاة وإذا جاء نهر الله بطن نهر معقل نعم وروده نادر.
وقال الطيبي بعد أن ذكر ورود نظماً ونثراً إنما حسن هذه القراءة الموافقة بين الكلمتين يعني هذه وما بعدها كما في حديث الترك والحبشة لأن رد العجز على الصدر وصنعة الترصيع قد جبرا منه وقيل إن القائلين إنما قالوا ودعه ربه بالتخفيف فنزلت فيكون المحسن له قصد المشاكلة لما قالوه وهم تكلموا بغير المعروف طيرة منهم كان غير المعروف من اللفظ مما يتشاءم به من الفأل الرديء أو أنهم لما قصدوا السخرية حسن استعمال اللفظ وقد قالوا يحسن استعمال الألفاظ الغريبة ونحوها في الهجاء فلا يبعد أن يكون في السخرية كذلك والحق أنه بعد ثبوت وروده لا يحتاج إلى تكلف محسن له.
والظاهر أن المراد بالرب هو الله عز وجل وفي التعبير عنه بعنوان الربوبية وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطف ما لا يخفى فكأنه قيل ما تركك المتكفل بمصلحتك والمبلغ لك على سبيل التدريج كمالك اللائق بك.
{وَمَا قلى} أي وما أبغضك وحذف المفعول لئلا يواجه عليه الصلاة والسلام بنسبة القلى وإن كانت في كلام منفي لطفاً به صلى الله عليه وسلم وشفقة عليه عليه الصلاة والسلام أو لنفي صدوره عنه عز وجل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ولأحد من أصحابه ومن أحبه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة أو للاستغناء عنه بذكره من قبل مع أن فيه مراعاة للفواصل واللغة المشهورة في مضارع {قلى} يقلي كيرمي وطيئ تقول يقل بفتح العين كيرضى وتفير القلى بالبغض شائع.
وفي القاموس من الواوي قلا زيداً قلا وقلاه أبغضه ومن اليائي قلاه كرماه ورضيه قلى وقلاء ومقلية أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقليه في البغض.
وفي مفرد ات الراغب القلي شدة البغض يقال قلاه يقلوه ويقليه فمن جعله من الواوي فهو من القلو أي الرمي من قولهم قلت الناقة براكبها قالوا وقلوت بالقلة فكان المقلو هو الذي يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله ومن جعله من اليائي فمن قليت اليسر والسويق على المقلاة انتهى.
وبينهما مخالفة لا تخفى وعلى اعتبار شدة البغض فالظاهر أن ذلك في الآية ليس إلا لأنه الواقع في كلامهم قال المفسرون أبطأ جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون قد قلاه ربه وودعه فأنزل الله تعالى ذلك.
وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1] إلخ قيل لامرأة أبي لهب أم جميل أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد هجاك فاتته عليه الصلاة والسلام وهو صلى الله عليه وسلم جالس في الملأ فقالت يا محمد علام تهجوني قال: «إني والله ما هجوتك ما هجاك إلا الله تعالى» فقالت هل رأيتني أحمل حطباً أو في جيدي حبلاً من مسد ثم انطلقت فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينزل عليه فاتته فقالت ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك فأنزل الله تعالى ذلك.
وأخرج الترمذي وصححه وابن أبي حاتم واللفظ له عن جندب البجلي قال: «رمى صلى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال:
ما أنت إلا اصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت»

فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم فقالت له امرأة ما أرى شيظانك إلا قد تركك.
وفي رواية للترمذي أيضاً والإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وجماعة بلفظ: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فأنزل الله تعالى: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى} وليس فيه حديث المرأة ولا الحجر والرجز وذلك لا يطعن في صحته.
وقال جمع من المفسرين أن اليهود سألوه عليه الصلاة والسلام عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسلام: «سأخبركم غداً»
ولم يستثن فاحتبس عنه الوحي فقال المشركون ما قالوا فنزلت وقيل إن عثمان أهدى إليه صلى الله عليه وسلم عنقود عنب وقيل عذق تمر فجاء سائل فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدمه إليه عليه الصلاة والسلام ثانياً ثم عاد السائل فاعطيه وهكذا ثلاث مرات فقال عليه الصلاة والسلام ملاطفاً لا غضبان «أسائل أنت يا فلان أم تاجر» فتأخر الوحي أياماً فاستوحش فنزلت. ولعلهم أيضاً قالوا ما قالوا.
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خوله وكانت تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جروا دخل تحت سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات ولم نشعر به فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي فقال يا خولة «ما حدث في بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام جبريل لا يأتيني فقلت يا نبي الله ما أتى علينا يو خير منا اليوم» فأخذ برده فلبسه وخرج فقلت في نفسي لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجر وميتا فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فقال يا خولة دثريني فأنزل الله تعالى: {والضحى واليل} إلى قوله بسحانه: {فترضى} وهذه الرواية تدل على أن الانقطاع كان أربعة أيام.
وعن ابن جريج أنه كان اثني عشر يوماً وعن الكلبي خمسة عشر يوماً وقبل بضعة عشر يوما وعن ابن عباس خمسة وعشرين يوماً وعن السدي ومقاتل أربعين يوماً وأنت تعلم أن مثل ذلك مما يتفاوت العلم بمبدئه ولا يكاد يعلم على التحقيق إلا منه عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم.
وفي بعض الروايات ما يدل على أن قائل ذلك هو النبي عليه الصلاة والسلام فعن الحسن أنه قال أبطأ الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لخديجة «إن ربي ودعني وقلاني» يشكو إليها فقالت كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله تعالى بهذه الكرامة إلا وهو سبحانه يريد أن يتمها لك فنزلت واستشكل هذا بأنه لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى شأنه ودعه وقلاه وهل إلا نحو من العزل وعزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمته عز وجل والنبي عليه الصلاة والسلام أعلم بذلك ويعلم صلى الله عليه وسلم أيضاً أن إبطاء الوحي وعكسه لا يخلو كل منهما عن مصلحة وحكمة.
وأجيب بأن مراده عليه الصلاة والسلام إن صح أن يجر بها ليعرف قدر علمها أو ليعرف الناس ذلك فقال ما قال صلى الله عليه وسلم بضرب من التأويل كان يكون قد قصد إن ربي ودعني وقلاني بزعم المشركين أو أن معاملته سبحانه إياي بإبطاء الوحي تشبه صورة معاملة المودع والقالي وأنت تعلم أن هذه الرواية شاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها فلا ينبغي اتعاب الذهن بتأويلها ونحوها ما دل على أن قائل ذاك خديجة رضي الله تعالى عنها.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عروة قال ابطأ جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم فجزع جزعاً شديداً فقالت خدجية أرى ربك قد قلاك مما أرى من جزعك فنزلت {والضحى واليل} إلى آخرها والقول بأنها رضي الله تعالى عنها أرادت أن هذا الجزع لا ينبغي أن يكون إلا من قلى ربك إياك وحاشى أي يقلاك فما هذا الجزع بعيد غاية البعد.
والمعول ما عليه الجمهور وصحت به الأخبار أن القائل هم المشركون وأنه عليه الصلاة والسلام إنما أحزنه بمقتضى الطبيعة البشرية تعبيرهم وعدم رؤية جبريل عليه السلام مع مزيد حبه إياه وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: «ما جئتني حتى اشتقت إليك» فقال جبريل عليه السلام كنت أنت إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا {وما نتنزل إلا بأمر ربك}.
وفي رواية أنه عاتبه عليهما الصلاة والسلام «فقال أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة» وراوي هذا يروي أن السبب في إبطاء الوحي وجود جرو في بيته عليه الصلاة والسلام.
والروايات في ذلك مختلفة وجوز بعضهم أن يكون الإبطاء لتجمع الأسباب ثم أن قد زعم بعض بناء على بعض الروايات السابقة جواز أن يكون المراد بربك في ما وعدك ربك دون ما بعد صاحبك والمراد به جبريل عليه السلام.
وهو كما ترى وحيث تضمن ما سبق من نفي التوديع والقلي أنه عز وجل لا يزال يواصله عليه الصلاة والسلام بالوحي والكرامة في الدنيا بشر صلى الله عليه وسلم بأن ما سيؤتاه في الآخرة أجل وأعظم من ذلك فقيل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى (4)} لما أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي عليه الصلاة والسلام من شرف النبوة وإن كان مما لا يعادله شرف ولا يدانيه فضل لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض القادحة في تمشية الأحكام مع أنه عندما أعد له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من السبق والتقدم على كافة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يوم الجمع يوم يوم النار لرب العالمين وكون أمته صلى الله عليه وسلم شهداء على سائر الأمم ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تحيط بها العبارات وتقصر دونها الإشارات بمنزلة بعض المبادي بالنسبة إلى المطالب كذا في الأرشاد والاختصاص الذي تقتضيه اللام قيل إضافي على معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بخيرية الآخرة دون من آذاه وشمت بتأخير الوحي عنه صلى الله عليه وسلم ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين كيف وقد علم بالضرورة أن الخير المعد له عليه الصلاة والسلام خير من المعد لغيره على الإطلاق ويكفي في ذلك اختصاص المقام المحمود به صلى الله عليه وسلم على أن اختصاص اللام ليس قصرياً كما قرر في موضعه.
وحمل الآخرة على الدار الآخرة المقابلة للدنيا والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا هو الظاهر المروى عن أبي إسحاق وغيره.
وقال ابن عطية وجماعة يحتمل أن يراد بهما نهاية أمره صلى الله عليه وسلم وبدايته فاللام فيهما للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي لنهاية أمرك خير من بدايته لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد رفعة.
وفي بعض الأخبار المرفوعة ما هو أظهر في الأول أخرج الطبراني في (الأوسط) والبيهقي في (الدلائل) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرض على ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني فأنزل الله تعالى وللآخرة خير لك من الأولى» ثم أن ربط الآية بما قبلها على الوجه الذي سمعت هو ما اختاره غير واحد من الأجلة.
وجوز أن يقال فيه أنه لما نزل {ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى: 3] حصل له عليه الصلاة والسلام به تشريف عظيم فكأنه صلى الله عليه وسلم استعظم ذلك فقيل له {وللآخرة خير لك من الأولى} على معنى أن هذا التشريف وإن كان عظيماً إلا أن مالك عند الله تعالى في الآخرة خير وأعظم.
وجوز أيضاً أن يكون المعنى انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لما يتوهمون لأنه عزل عن النبوة وهو مستحيل في الحكمة بل أقصى ما في الباب أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن السالة وذلك إمارة الموت فكأنه تعالى قال انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت لكن الموت خير لك فإن مالك عند الله تعالى في الآخرة أفضل مما لك الدنيا.
وهذا كما ترى دون ما قبله بكثير.
والمتبادر مما قرروه أن الجملة مستأنفة واللام فيها ابتدائية وقد صرح جمع بأنها كذلك في قوله تعالى: {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} وقالوا فائدتها تأكيد مضمون لجملة وبعدها مبتدأ محذوف أي ولانت سوف يعطيك إلخ وأورد عليه أن التأكيد يقتضي الاعتناء والحذف ينافيه ولذا قال ابن الحاجب أن المبتدأ المؤكد باللام لا يحذف وأن اللام مع المبتدأ كقد مع الفعل وإن مع الاسم فكما لا يحذف الفعل والاسم ويبقيان بعد حذفهما كذلك لا يحذف المبتدأ وتبقى اللام وأنه يلزم التقدير والأصل عدمه وأن اللام لتخلص المضارع الذي في حيزها للحال كتأكيد مضمون الجملة وهو هنا مقرون بحرف التنفيس والتأخير فيلزم التنافي ورد بأن المؤكد الجملة لا المبتدا وحده حتى ينافي تأكيده حذفه.
وكلام ابن الحاجب ليس حجة على الفارسي وأمثاله وأن يحذف معها الاسم كثيراً كما ذكره النحاة وكذا قد يحذف بعدها الفعل كقوله:
أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما تزل برحالنا وكان قد

مع أنه لو سلم فقد يفرق كما قال الطيبي بين أن وقد وهذه اللام بأنهما يؤثران في المدخول عليه مع التأكيد بخلاف هذه اللام فإن مقتضاه أن تؤكد مضمون الجملة لا غير وهو باقي وإن حذف المبتدا فالقياس قياس مع الفارق والنحويون يقدرون كثيراً في الكلام كما قدروا المبتدا في نحو قمت واصك عينه وهو لأجل الصناعة دون المعنى كما فيما نحن فيه واللام المؤكدة لا نسلم أنها لتلخيص المضارع للحال أيضاً بل هي لمطلق التأكيد فقط ويفهم معهالحال بالقرينة لأنه أنسب بالتأكيد على تسليم أنها لتخليصه للحال أيضاً يجوز أن يقال إنها تجردت للتأكيد هنا بقرينة ذكر سوق بعدها والمراد تأكيد المؤخر أعني الإعطاء لا تأكيد التأخير فالمعنى أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة وعلى تسليم أنها للأمرين ولا تجرد يجوز أن يقال نزل المستقبل أعني الإعطاء الذي يعقبه الرضا لتحقق وقوعه منزلة الواقع الحالي نظير ما قيل في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [النحل: 124] وقيل يحسن هذا جدًّا فيما نحن فيه على القول بأن الإعطاء قد شرع فيه عند نزول الآية بناء على أحد أوجهها الآتية بعد أن شاء الله تعالى وذهب بعضهم بأن اللام الأولى للقسم وكذا هذه اللام وبقسميتها جزم غير واحد فالواو عليه للعطف فكلا الوعدين داخل في المقسم عليه ويكون الله تعالى قد أقسم على أربعة أشياء اثنان منفيان واثنان مثبتان وهو حسن في نظري واعترض بأن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة فلو كان للقسم لقيل لسوف يعطيك ربك ولا يخفى أن هذا أحد مذهبين للنحاة والآخر أن يستثنى ما قرن بحرف تنفيس كما هنا ففي (المغنى) أنه تجب اللام وتمتنع النون فيه كقوله:
فوربي لسوف يجزى الذي ** أسلف المرء سيئاً أو جميلاً

وكذا مع فصل معمول الفعل بين اللام والفعل نحو {ولئن متم أو قتلتم لالى الله تحشرون} [آل عمران: 158] ومع كون الفعل للحال نحو لاقسم وقد يمتنعان وذلك مع الفعل المنفي نحو {تالله تفتؤ} [يوسف: 85] وقد يجبان وذلك فيما بقي نحو {تالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57] وعليه لا يتجه الاعتراض مع أن الممنوع بدون النون في جواب القسم لا في المعطوف عليه كما هنا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإنما ذكرت اللام تأكيداً للقسم وتذكيراً به.
وبالجملة هذا الوجه أقل دغدغة من الوجه السابق ولا يحتاج فيه إلى توجيه جمع اللام مع سوف إذ لم يقل أحد من علماء العربية بأن اللام القسمية مخلصة المضارع للحال كما لا يخفى على من تتبع كتبهم. وظاهر كلام الفاضل الكلنبوي أن كلا من اللامين موضوع للدلالة على الحال ووجه الجمع على تقدير كونها في الآية قسمية بأنها محمولة على معناها الحقيقي وسوف محمولة على تأكيد الحكم ولذا قامت مقام إحدى النونين عند أبي على الفارسي وقد أطال رحمه الله تعالى الكلام فيما يتعلق بهذا المقام وأتى على غزارة فضله بما يستبعد صدوره من مثله.
وقال عصام الدين الأظهر أن جملة {ما ودعك} [الضحى: 3] حالية أي ما ودعك ربك وما قلاك والحال أن الآخرة خير لك من الأولى وأنت تختارها عليها ومن حاله كذلك لا يتركه ربه ففيه إرشاد للمؤمنين إلى ما هو ملاك قرب العبد إلى الرب عز وجل وتوبيخ للمشركين بما هم فيه من التزام أمر الدنيا والإعراض عن الآخرة وحينئذ معنى قوله سبحانه: {ولسوف يُعْطِيكَ} أنه سوف يعطيك الآخرة ولا يخفى حينئذ كمال اشتباك الجمل انتهى.
وفيه أن دخول اللام عليها مع دخوله على الجملة بعدها وسبقهما بالقسم يبعد الحالية جدًّا وأيضاً المعنى ذكره على تقديرها غير ظاهر من الآية وكان الظاهر عليه عندك بدل لك كما لا يخفى عليك.
واختلف في قوله تعالى: {ولسوف} إلخ فقيل هو عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله عليه وسلم وفي أيام خلفائه عليه الصلاة والسلام وغيرهم من الملوك الإسلامية وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ولما ادخر جل وعلا له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو جل جلاله وعم نواله وقيل عدة بما أعطاه سبحانه وتعالى في الدنيا من فتح مكة وغيره والجمهور على أنه عدة أخروية.
فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال هي الشفاعة وروى نحوه عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم.
أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في (الحلية) من طريق حرب بن شريح قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين على جدهم وعليهم الصلاة والسلام أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي قال أي والله حدثني محمد بن الحنفية عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اشفع لأمتي حتى ينادي ربي ارضيت يا محمد فأقول نعم يا رب رضيت» ثم اقبل على فقال إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله تعالى: {يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله أن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر: 53] قلت إنا لنقول ذلك قال فكلنا أهل البيت نقول إن أرجى آية في كتاب الله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى وقال هي الشفاعة وقيل هي أعم من الشفاعة وغيرها ويرشد إليه ما أخرجه العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من جلد الإبل فلما نظر إليها قال: «يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة غداً» فأنزل الله تعالى: {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}.
وقال أبو حيان الأولى العموم لما في الدنيا والآخرة على اختلاف أنواعه والخبر المذكور لو سلم صحته لا يأبى ذلك نعم عطايا الآخرة أعظم من عطايا الدنيا بكثير فقد روى الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس أنه قال أعطاه الله تعالى في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم.
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية من رضا محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار وأخرج البيهقي في (شعب الايمان) عنه أنه قال رضاه صلى الله عليه وسلم أن يدخل أمته كلهم الجنة.
وفي رواية الخطيب في تلخيص المتشابه من وجه آخر عنه لا يرضى محمد صلى الله عليه وسلم وأحد من أمته النار وهذا ما تقتضيه شفقته العظيمة عليه الصلاة والسلام على أمته فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً عليهم رؤوفاً بهم مهتماً بأمرهم.
وقد أخرج مسلم كما في (الدر المنثور) عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام {فمن تبعني فإنه مني} [إبراهيم: 36] وقوله تعالى في عيسى: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية فرفع عليه الصلاة والسلام يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقل له أنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» وفي إعادة اسم الرب مع إضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى أيضاً من اللطف به صلى الله عليه وسلم. اهـ.